سعد زغلول باشا
ولد سعد زغلول فى شهر يوليو سنة 1857, تبعاً لما ذكره لبعض سائليه عن ميلاده, ولا نعلم من سجل المواليد تاريخ ميلاده على وجه التحقيق, أما تاريخ الميلاد المسجل على شهادة ليسانس الحقوق التى حصل عليها من باريس, ففيها إنه أول يونيو سنة 1860, فى بلدة أبيانه, التابعة لمديرية الغربية سابقا وحاليا كفر الشيخ, فى أطراف بعيدة عن العاصمة التى تستقر فيها هيبة الحكام وسطوة الرؤساء, ولكنها ليست بعيدة عن أثار عسفهم وجرائر فسادهم.
نشأ فى أسرة فى الفلاحين, لم تكن بالغة الثراء, كما لم تكن بالغة الفقر. كان أبوه إبراهيم زغلول عميد بلدته ومن أثرياء الفلاحين فيها, لكن مات أبوه وهو فى السادسة من عمره, فحرم من عطف الأبوة وحمايتها ولكنه حرمان لم يصادف ضعفا فى مزاج نفسه فينهكها وهى فى نواتها, بل صادف منه قوة أصيلة, فأعان ما ركب فيه من ميزات الجد والشعور بالذات والاعتماد على النفس فى تذليل الصعوبات ومواجهة الناس.
أرسل سعد إلى الكتاب فى سن السادسة, وانتهى منه فى نحو الحادية عشر, ووضحت عليه فى تلك السن المبكرة مخايل الذكاء, فكان يصحح كتابة اللوح من قراءة واحدة, ويفرض على نفسه من الواجبات المدرسية فوق ما يفرضه المعلم. وبعد أن أتم حفظ القرأن الكريم حفظاً جيداً, ولم يبق له ما يتعلمه فى الكتاب, تردد خلال مدة سنتين بين رشيد ومطوبس يحضر على الشيخ أحمد أبى راس, يدرس عليه مبادىء النحو والفقه, وقد أصبح هذا الشيخ فيما بعد شيخ معهد دسوق.
ثم أخذ يتلقى أصول التجويد بالجامع الدسوقى والقراءة على الشيخ عبدالله عبدالعظيم المقرىء المشهور.
فى عام 1871 التحق سعد زغلول بالأزهر, وهى السنة التى تولى فيها الشيخ محمد العباسى المهدى مشيخته, وعمل فيها على تنظيمه وتجديده, فأنشأ لجنة لامتحان الطلاب, ومنح الناجحين منهم إجازة العالمية.
وفى عام 1872, فى عهد رئاسة رياض باشا للوزارة, الذى دعا الزعيم الاسلامى الكبير جمال الدين الأفغانى إلى الاقامة بالقاهرة, وقدمت معه تلك الدعوة الجريئة التى هز بها الشرق العربى وأبنائه فى كل مكان, واختلف الطالب الأزهرى سعد زغلول إلى مجلس السيد جمال الدين فى داره بخان أبى طاقية حيناً, وفى مقهى "متاتيا" المواجه لمسرح الأزبكية حيناً أخر, يرتشف من معينه, ويتلقى عنه أعظم المبادىء وأسمى الاتجاهات!!
ويروى عن سعد زغلول بعد أن التقى بجمال الدين الأفغانى لأول مرة, أنه قال "هذا بغيتى", وقيل أيضا إن جمال الدين استكتب تلاميذه موضوعاً عن الحرية, فأجاد سعد فى كتابته إجادة فاق بها أقرانه, وصادفت إعجابا وتقديرا له حتى أنه قال: "مما يدل على أن الحرية ناشئة فى مصر أن يجيد فى الكتابة عنها هذا الناشىء".
وقد احتفى رياض باشا بالسيد جمال الدين الأفغانى, وعين له مرتبا شهريا, وكان يرجو النفع لهذا البلد من أعماله وأعمال مريدية, واستعان بأبرز تلاميذه وهوالشيخ محمد عبده على الاشراف ورئاسة تحرير جريدة الحكومة "الوقائع المصرية" فأحدث فيها تغييراً كبيراً, واستحرث فيها أنماطاً جديدة فى التحرير والأسلوب والموضوعات واحتاج الأستاذ إلى مساعدين فى عمله, فلم يجد من تلاميذ الأفغانى من هو أقدر من سعد زغلول على المساعدة فى هذا التعيين فى الخامس من أكتوبر سنة 19880م, بمرتب شهرى قدره ثمانية جنيهات, وانقطعت بذلك علاقة سعد زغلول بالأزهر..!!
وأصبحت هذه الصحيفة الرسمية, صحيفة الثورة الفكرية, تنطق بمبادئها وتنحى على الاستبداد, وتبشر بالحرية والشورى, وانتفع سعد بصحبة الشيخ والعمل معه فى هاتين المدرستين اللتين تكمل إحداهما الأخرى, مدرسة جمال الدين الافغانى ومدرسة الامام محمد عبده.
ولقد كان اشتغاله بالتحرير فى جريدة الوقائع المصرية, مرحلة أخرى ذات شأن عظيم فى تاريخ حياته كلها, لأن العمل بها, لم يقتصر على تصحيح العبارات, وكتابة المقالات الأدبية, بل تناول نقد أحكام المجالس الملغاة وتلخيصها, والتعقيب عليها, ففتحت أمام سعد أبواب الدفاع والدراسات القانونية, وأيواب الدفاع السياسى والأعمال السياسية, وهى الوجه التى صمد عليها بقية حياته, وتم عليها تكوينه, وتثبيت مواهبه العقلية, ولم يلبث على الاشتغال بها غير قليل, حتى ظهرت كفاءته فى نقد الاحكام وفهم مباحث القانون وما يقابلها من الشريعة, ثم اشتعلت الثورة العرابية, فنقلته إلى وظيفة ناظر لقلم قضايا الجيزة فى ديسمبر سنة 1882 وقد قال عنها فى خطبة ألقاها فيما بعد عند اختياره لمنصب القضاء, إنها (أشبه بوظيفة القاضى, إذ كان من خصائصه أن يصدر الاحكام فى كثير من المواد الجزئية) وشاءت المصادفات أن تكون هذه الأيام فاصلاً بين عهدين فى حياة سعد وفى حياة الأمة المصرية, فنقلته من الأزهر إلى الحكومة, ومن العمامة إلى الطربوش, ومن دراسة العلوم الدينية إلى دراسة العلوم القانونية.
وفى تلك الأيام حين كانت الثورة العرابية على أشدها, انتقلت مصر بأسرها من حال إلى حال, وانطوت فى تاريخها صفحة معلومة وبدأت فيه صفحة مجهولة, وقدر لهذه الصفحة المجهولة أن تعود فتلتقى بتاريخ سعد فى صفحة واحدة!
على أثر قيام الثورة العرابية, لم يكن مناص من اشتراك سعد زغلول فيها ولو بدور سرى يتناسب مع ظروف الوظيفة, ولكنه كان معلوما على كل حال, فلما أخفقت الثورة وأضير رجالها, كان هو من أوائل الموظفين المتهمين بانتمائهم إليها, ففصل وحورب كما حورب جميع أنصارها!!
ثم وصلت إليه أصابع الاتهام, فى قضية خطيرة, اتهم فيها مع صديق له وهو حسين صقر بتأليف جماعة سرية اسمها "جماعة الانتقام", عملها اغتيال المواطنين الذين خانوا الثورة العرابية وسهلوا لرجال الحكومة الاحتلالية, سبيل القبض على رجال الثورة وأنصارها, وقد تمت محاكمته مع صديقه المذكور, ولما لم تكن هناك أدلة ثابتة على هذه التهمة المزعومة, حكم عليهما بالبراءة, ورغم ذلك بقيا معتقلين فى السجن, مدة طويلة وصلت إلى 98 يوماً, وكانت الحكومة تعتزم نفيهما إلى السودان, غيى أن تنفيذ هذا الأمر المنافى للعدالة, وبعد صدور حكم البراءةو من محكمة انجليزية, كان تحديا لقضائها الذى برأهما, فاضطرت الحكومة إلى الافراج عنهما.
وقد خطر لسعد بعد أن أطلق سراحه وتبرئته, أن يسعى لاستعادة وظيفته السابقة, أو أى وظيفة غيرها فى الحكومة, ولكنه أخفق, حيث أن الطريق إلى ذلك سيكلفه أنواعاً من التزلف والتنكر, الأمر الذى لا يطيقه ويتنافى مع كرامته, لذلك فقد طلق الفكرة نهائيا, وعزم على الاتجاه نحو المحاماة, وفضل العمل فيها عن انتظار الوظيفة.